عدنى ان تعد، لتمكث.
كانت تحمل بعض الأزهار وتتقدم بإتجاه باب شقة خالتها المقابلة لشقتها، عقدت حاجبيها وهي ترى الباب مواربا، تهز رأسها بيأس، فلطالما نبهت على خالتها أن تتأكد من إغلاق باب المنزل حين تحضر مشترياتها، فهي دوما تدلف من الباب وتنسى إغلاقه بسبب تلك الأكياس التي تحملها، كادت أن تدلف إلى الشقة حين سمعت خالتها تقول بعصبية: ياإبنى شوفها بس مش جايز تعجبك، ده أنا لسة مقابلة أمها عند عمك محمود السماك، وكان ناقص تطلبك منى، هتفضل بس لحد إمتى كدة من غير جواز؟! أنا نفسى أفرح بيك ياجلال. العمر بيجرى وأنا نفسي أشيل ضناك قبل ماأموت، حس بية بقى.
عقدت (رحمة)حاجبيها، بينما تستمع ل(جلال)وهو يقول: وأنا مين اللى يحس بية؟ عايزانى أعيش حياتي وأتجوز. طب إزاي بس وانت عارفة اللى جوة قلبى؟ إزاي هتجوز واحدة وأنا قلبى مع غيرها؟
إزداد إنعقاد حاجبي(رحمة)بينما تقول (فاطمة): ياابنى فوق بقى، ماانت عارف اللى فيها، هتستنى أد إيه؟ لغاية ماتشيب ويبقى خلاص فات اوان انك تكون أب وتكون عيلة؟
قال(جلال): هستنى ولو عمرى كله راح، فداها ياأمى. انتى مش عارفة يعنى إيه تحبى حد بجد لدرجة ان مجرد قربه منك يكون كفاية أوى عليكى، وانك متتمنيش في الدنيا دى غير انه يكون جنبك وبس، تبقى بالنسبة لك نعمة مش عايزاها تزول أبدا وبتتمنى بس تدوم.
قالت(فاطمة)بقلة حيلة: أيوة ياإبنى، بس…
قاطعها(جلال)قائلا: أبوس إيدك ياأمى، من غير بس. قفلى الكلام في الموضوع ده ومتفتحيهوش تانى، متقلبيش المواجع علية وسيبينى في حالي، وادعيلى. أنا مش طالب في الدنيا دى غير دعوتك لية.
قالت(فاطمة)بحنان حزين: داعيالك ياإبني. داعيالك في كل وقت وأدان.
قال(جلال): ربنا يباركلى فيكى ياأمى وميحرمنيش منك.
قالت(فاطمة): ويباركلى فيك ياضنايا.
تراجعت (رحمة)بخطوات بطيئة إلى شقتها، تتعجب من ذلك الحزن الذي إعتراها حين أدركت للتو شيئا غاب عن بالها، وهو احتمال أن يتزوج إبن خالتها (جلال )وينشغل عنهما بإمرأة أخرى، إمرأة تصبح أهم لديه من والدته، ومنها.
تساءلت برهبة.
هل سينشغل عنها حقا؟!
وإن إحتاجت إليه لن تجده؟!
هل ستصبح زوجته أهم لديه منها حقا؟
وماذا ان لم ترق لها؟!
ألن يهتم برأيها؟!
وهل سيتخذ جانب زوجته عند شجارهما سويا؟!
فبالتأكيد ستتشاجر معها ان لم تعجبها.
ولماذا تتشاجر معها وهي التي لا تحب الشجار أبدا؟
لماذا هي شبه متأكدة أنها لن تعجبها؟
فربما صارت صديقتها.
لا…
لن تكون أبدا.
فمن ستأخذ منها(جلال)وتشغله عنها بالتأكيد لن تصير صديقة لها.
تبا…
فيم تفكر؟ وإلى أين تقودها أفكارها الآن؟
لم لا تستطيع أن تتمنى له السعادة مع من سيرتبط بها؟
ولما تلك الغصة بقلبها لمعرفته بأنه يعشق فتاة أخرى بتلك الصورة التي وصف بيها عشقه؟
ما الذي يدور برأسها وبقلبها في تلك اللحظة…
دوامة من مشاعر لا تحصى…
لاتريد أن تفكر فيها كثيرا وإلا أصابها الجنون…
أسرعت تلقى بزهورها التي تعشقها على الطاولة، تسحب حقيبتها، ثم تسرع بالخروج لترى صديقتها (منار).
ثرثارة. تدرك ذلك جيدا، ولكنها في تلك اللحظة تبغى صحبة صوتها يطغى على صوت تلك الأفكار التي تجول بخاطرها وتحرمها، راحة البال.
كانت تستمع إليها في الظاهر بينما هي حقيقة لا تسمع كلمة من حديث تلك الفتاة التي لم تتوقف عن الكلام منذ رأت(رحمة)، تائهة بين أفكارها في طريق مظلم تبغي من يضيئ لها الطريق لتخرج من الظلمات إلى النور ولكنها تخشى ذلك، شيئ ما يمنعها من الخوض في تلك الأفكار ومحاولة فك غموضها وإدراك طلاسمها، تدرك أن طريق أفكارها متخبط وغير مأمون العواقب ونهايته مازالت مغلفة بالغموض، لديها شعور قوي بالخسارة ولاتدرى ماالذى خسرته. تود في تلك اللحظة لو عادت طفلة لاتعرف للحياة هما ولا تحمل في عقلها أفكارا متلاحقة تصيبها بحيرة قاتلة. تمنت لو عادت طفلة بريئة لم تنهكها هموم الحياة.
أفاقت من شرودها على صوت صديقتها التي قالت بحيرة: روحتى فين يارحمة؟ انتى مش معايا خالص.
قالت(رحمة) بإرتباك: مروحتش في حتة، أنا معاكى اهو.
رفعت(منار)حاجبيها قائلة: طب رأيك إيه بقى في اللى أنا قلتهولك؟
لم تدرى (رحمة)بما تجيبها ولكن كان لابد وإن تقول شيئا ما، لذا قالت بود: سيبك انتى وقوليلى بقى خسيتى إزاي وبقيتي زي القمر كدة، ولا كانك متجوزة ومخلفة كمان؟
كانت تدرك ان هذا كاف ليحول ذهن(منار)كلية عن التركيز في إجابتها، فجل ماتحبه تلك الفتاة هو الحديث عن الحمية والرشاقة والجمال لتقول صديقتها بإبتسامة واسعة: وهو انا مقولتلكيش. جروب يارحمة دخلت فيه ومن يوميها مش قادرة أوصفلك…
لم تستمع (رحمة)إلى بقية حديثها وهي تعود إلى أفكارها التي لا ترغب في تركها لحالها، تتصارع بداخلها كبركان ثائر يبغى الخروج من صدرها كي يرتاح ذلك القلب المنهك الذي أرهقه الفراق، حتى صار يخشى أن يفترق الجميع عنه ويبقى بالنهاية وحيدا، دون رفيق.
كان يهبط درجات السلم بسرعة، ينوى البحث عنها وقد رحلت دون أن تخبر أحدا، وتأخرت بالعودة كثيرا حين توقف وهو يراها تصعد الدرج لتتوقف بدورها وتناظره بملامح خالية، قال لها بلهفة: كنت فين يارحمة؟ خرجتى من غير ماتقولى لحد ومبترديش على التليفون كمان. خضتينا عليكى.
صعدت مجددا وهي تقول: كنت عند واحدة صاحبتي، مفيهاش حاجة دى يعنى. وبعدين أنا مش عيلة صغيرة كل أما هخرج هاخد إذن ياجلال. خالد مسافر وانت مش جوزى عشان تحاسبنى.
وصلت إلى جواره فأمسك ذراعها يمنعها من الصعود قائلا بحدة: أنا ابن خالتك وأخوكى زي مادايما كنتى بتقوليلى يارحمة، وبعدين ده اسمه خوف عليكى مش حساب.
صوته. أنفاسه القريبة منها. ويده التي تمسك بذراعها. كل هؤلاء أرسلوا إلى جسدها قشعريرة رفضتها بشدة، لتتسع عيناها بقوة. وهي تشعر برعشة في أوصالها، يدق قلبها بسرعة، وتعجز عن فهم مايدور بكيانها. شعر (جلال )بإرتعاشتها ليترك ذراعها على الفور، فوجدت نفسها تقول دون وعي: بتخاف عليها زي مابتخاف علية كدة؟
عقد حاجبيه بقوة وهو يطالعها بحيرة قائلا: هي مين دى؟
قالت: اللى بتحبها، واللى قربها منك كفاية، واللى مبتتمناش في الدنيا غير إنها تكون جنبك وبس.
إتسعت عيناه بصدمة قائلا: انتى…
قاطعته قائلة بتقرير: سمعت كل حاجة.
ظل يطالعها بصدمة دون أن يتحدث بينما أردفت هي بصوت حزين: أنا مش زعلانة، بالعكس أنا بتمنالك السعادة من كل قلبى وانت عارف، بس خايفة. خايفة تاخدك مننا وتشغلك عنا، احنا ملناش في الدنيا دى غيرك.
تغيرت نظراته فشعرت بسواد عيونه يزداد قتامة و يبتلعانها في جوفهما، لم تستطع ان تحيد بنظراتها عنه وهو يقول بصوت عميق: وخالد؟!
قالت بإضطراب: آه طبعا وخالد. بس انا اقصد يعنى في غياب خالد.
مازالت نظرته العميقة تبتلعها وهو يقول: متخافيش أنا موجود جنبك لغاية ماخالد يرجع وميسافرش تانى، وقتها لازم أمشى لإنى ساعتها مش هينفع أستنى.
قالت بحيرة: مش فاهمة. هتروح فين ياجلال؟
قال بصوت شعرت به يأتى من اعماق قلبه: هبقى أقولك ساعتها، لكن لغاية ما ده يحصل فإنتى في حمايتي وتحت رعايتي، من فضلك متقلقيناش عليكى تانى، انتى عارفة غلاوتك عندنا، وميرضيكيش تتعبى قلوبنا وترعبينا من الخوف عليكى.
قالت بندم: أنا آسفة. بجد مقصدتش.
قال بإبتسامة باهتة: ولا يهمك. يلا إطلعى طمنى بطة و إتعشى معاها قبل ماتنامى.
قالت: وانت رايح فين؟
قال: هشم شوية هوا على الكورنيش ومش هتأخر.
قالت: خدنى معاك.
هز رأسه نفيا وهو يقول: مش هينفع، انتى شكلك مرهق ومحتاجة تنامى، اطلعى يارحمة اتعشى ونامى علطول.
هزت رأسها وصعدت بخطوات بطيئة، بينما يتابعها(جلال)بعينيه، قبل ان يظهر بهما الألم فأغلق جفنيه على ألمه ثم فتح عينيه وقد صارتا خاليتان تماما من الحياة، ليستدير ويغادر المنزل بخطوات سريعة وكأن شياطين الدنيا تهرول خلفه.
لا أدرى لما أمسكت القلم وأردت أن أكتب لك الآن؟!
فليس بميعادنا ولم يحن وقت رسائلنا بعد.
بقي أسبوعا كاملا على موعد خطابنا التالى، ولكنى وجدت نفسى فقط أحتاج إلى الحديث.
ومن غيرك قد يستمع إلى كلماتي ويدرك مشاعري.
ومن غيرك قد أستضيع ان أفضى له بمكنون قلبى؟
لا أحد…
بل يوجد.
هو…
ولكنى اجدنى اليوم لا أستطيع البوح له بما في صدرى.
فقد تنتابه الأفكار حولى.
وأنا لا أريده أن يقرأ سطور مشاعرى ويفسرها.
فحتى أنا لا أستطيع لها تفسيرا سوى الخوف.
الخوف من الفقد والوحدة.
لا أدرى ما يحدث لى حقا.
صرت غريبة حتى عن نفسي.
أصبحت كثيرة التخبط، كثيرة النسيان.
حتى أننى أخشى أن أنسى نفسي.
ولكن لا. لا تقلق…
مهما حدث. لن أنساك أبدا.
فأنا أحببتك كما لم أحب مخلوق قط.
ربما هو غيابك من يفقدني الوقت ويربكني.
ربما فراقك من يشعرني بهذا الفراغ القاتل.
فإلى الآن مازلت عند هذا اليوم الذي رحلت فيه.
لم يمر يوما آخر.
أنتظر إشراقة عودتك لأطلق على اليوم يوما.
مازال لساني عامرا بذكر إسمك، ولا تخلو أيامى من ذكرياتك.
أتذكرك حين أصحو وحين أنام.
وحين تمر بخاطري كلمة تعيد إلى ذهني الذكريات.
أتذكرك حين أشتاق لوجودك.
أي أنى أتذكرك في كل وقت وحين.
أحاول أن ألهى ذاتي في أي شيئ كي أبعد عنى تلك الغصة في حلقي والتي يخلفها الغياب.
ولكنى أتعذب…
يقولون الحياة عادلة.
فأين العدل ونحن مفترقان، يلوذ كلانا للذكريات حين يشتد بنا ألم الحنين؟
أين العدل وحين أبغى بين ذراعيك ملجأ. أجدنى أحتوى صورتك بدلا منك، ربما تمنحني بعض الصبر ولكنها بالتأكيد لا تمنحني هذا الدفء الذي يجعلني أنام قريرة العين.
لا تمنحني تلك الصورة دفء قربك.
مايقلقنى حقا هي تلك المشاعر التي باتت تغزوني مؤخرا.
فذكرياتنا تبهت كل يوم في مخيلتي.
ويزداد أنين الشوق في قلبي.
أتخبط بين جدران وحدتي وأفكاري.
لا أدرى مايحدث لى صدقنى.
فلم أعد كما كنت.
بداخلى مشاعر مبهمة.
سامحني. لا أستطيع وصفها.
فقط أدرك أنها فقط تبعدني عنك.
وأنا لا أبغى أن أبتعد عنك أبدا.
بالله عليك كفانا فرقة وإغترابا.
عد إلي.
فقط إن عدت فعدني.
عدنى أن تعد، لتمكث.
أمسكت خطابها تقرأه مرة أخرى، قبل أن تزفر وهي تقطعه، تحوله إلى فتات، وتلقيه في سلة القمامة. ثم تنهض لتتمدد على سريرها، تنام في وضع الجنين، تبكى، في صمت.